إفريقيا يجب أن تضع الثقة في إفريقيا لخلق شراكات ذات الفائدة المتبادلة

هيئة التحرير25 مايو 2021
إفريقيا يجب أن تضع الثقة في إفريقيا لخلق شراكات ذات الفائدة المتبادلة

منذ أكثر من عقد من الزمن باتت القارة الإفريقية مثار اهتمام العديد من دول العالم، المتقدم منه والذي في طريق النمو سواء بسواء، والواقع أنه في الوقت الذي تَعْرِف فيه نسب النمو بالدول المتقدمة والصاعدة تراجعًا وانحسارًا، وفي أحسن الأحوال استقرارًا؛ فإن إفريقيا بناتجها الداخلي الخام الذي يتجاوز الـ 200 مليار دولار، تعرف نسب نمو مستمرة تتعدى في المتوسط 6% في السنة.

وبقدر تكثف المبادلات التجارية بين إفريقيا والعالم الخارجي، فقد تنوَّع فرقاؤها الاقتصاديون تنوعًا قل نظيره في مناطق أخرى من العالم؛ لا بل باتت القارة وجهة اقتصاديات صاعدة؛ وذلك على حساب القوى الاقتصادية الاستعمارية التقليدية؛ حيث لا يقتصر رهان هذه الدول على إفريقيا كونها منجمًا ضخمًا للمواد الأولية الطبيعية والمنجمية على حدٍّ سواء؛ بل يتعداه ليطاول سوقًا داخليًّا استهلاكيًّا ضخمًا يقدر بمليار نسمة حاليًّا؛ وسيصل حسب التقديرات إلى أكثر من مليارين في أفق عام 2050؛ وذلك بحكم تسارع ظاهرة التمدن، وتكوُّن طبقات اجتماعية متوسطة مهمة، من شأنها أن تؤسس لنموذج في التنمية مرتكز على الطلب الداخلي، وليس على ما تُدِرِّه الصادرات الأولية.

هذا الفضاء الجغرافي، الاقتصادي والاجتماعي والبشري مترامي الأطراف، لم يكن ليترك المغرب في وضعية حياد سلبية؛ بل دفعه إلى صياغة توجهات دبلوماسيته وسياسته الاقتصادية باستحضار هذا الواقع والبناء على معطياته.
لذلك، فإن زيارات الملك محمد السادس المكثفة للقارة الإفريقية، إنما تنهل من معين هذه التوجهات الجديدة؛ التي تحاول القطع مع ممارسات البلدان الاستعمارية، لتضع أسسًا جديدة لتنمية متبادلة متكافئة بين بلدان الجنوب، تأخذ أشكال مشاريع اقتصادية عملية؛ لكن بنكهة إنسانية واجتماعية وثقافية متميزة.

ولذلك -أيضًا- فإن النزوع المتزايد للشركات المغربية (في البنوك، والاتصالات، والتأمينات، والأشغال العمومية، والنقل، والطاقة.. وغيرها) للاستثمار بقوة في البلدان الإفريقية جنوب الصحراء، إنما يجد تفسيره ومسوغه ومحفزه في تطلع المغرب إلى إعادة إحياء البُعد الإفريقي، الذي طالما اعترضته الحسابات السياسية، أو حالت دون تجذُّره التوازنات الإقليمية أو الحروب البينيَّة أو ما سوى ذلك.

مسار العلاقات المغربية-الإفريقية

على الرغم من أن المغرب لا يبعد عن أوروبا إلا بحوالي 14 كيلو مترًا، فإنه لم يتنكر يومًا لهويته الإفريقية؛ بل اعتبر البعد الإفريقي عنصرًا جوهريًّا من عناصر هويته العربية/الإسلامية، مؤسسًا وليس مكملاً لها، والمقصود بالهوية الإفريقية للمغرب تلك الروابط الحضارية الضاربة في القدم؛ التي تشد المغرب إلى القارة التي ينتمي إليها؛ وهي هوية مبنية على عناصر التاريخ والجغرافيا والعلاقات الإنسانية؛ لكنها مبنية في الآن ذاته على قيم ثقافية واحدة. وعلى علاقات روحية عميقة؛ إذ انتشر الإسلام في دول غرب إفريقيا وبلدان الساحل، انطلاقًا من المغرب وعلى يد الحركات الدينية والزوايا الصوفية؛ كالزاوية التيجانية والزاوية القادرية؛ اللتين لهما بهذا الجزء من إفريقيا أتباع كثر.

لم تتغير مواقف المغرب كثيرًا في علاقاته المتميزة مع إفريقيا؛ بل إن الذي تغير إنما شكل المقاربة ومضامينها؛ التي ركب المغرب ناصيتها وأعطاها زخمًا كبيرًا على المستوى العملي؛ إذ لم يعد الملك يصطحب في جولاته الإفريقية « وزراء السيادة »، بل بات محاطًا في معظم جولاته بالوزراء ذوي الاختصاص المباشر، والمرتبط بطبيعة الزيارة، وكذا برجال الأعمال الفعليين؛ سواء من القطاعات الإنتاجية العمومية أو من القطاع الخاص، وهو ما يَظْهَر بقوة في مشاريع التعاون القطاعي، والبنى التحتية، والنقل، والاتصالات، وقطاع المصارف والتأمينات، وقطاع الصناعات الخفيفة، وما سوى ذلك.

بالتالي، فنحن هنا إزاء تصور « جديد » يركب ناصية الاستثمار المباشر ونقل الخبرات والمعارف، عوضًا من الارتكان إلى علاقات مبنية -كما في الماضي- على تبادل السلع الفلاحية وشبه المصنعة بين الطرفين.

يقول الملك محمد السادس، بخصوص هذا التصور، في رسالة للمنتدى الاقتصادي المغربي/الإيفواري بأبيدجان: إن « إفريقيا قارة كبيرة، بقواها الحية ومواردها ومؤهلاتها، يجب أن تأخذ مصيرها بيدها؛ لأنها لم تعد مستعمرة؛ لذلك فإن إفريقيا يجب أن تضع الثقة في إفريقيا، إنها بحاجة أقل للمعونة، وتحتاج إلى المزيد من الشراكات ذات الفائدة المتبادلة، إنها ليست بحاجة إلى المساعدة الإنسانية؛ بل إلى مشاريع في التنمية الاقتصادية والاجتماعية ».

المغرب -بهذا النموذج- لا يتطلع إلى تأدية دور الوسيط المحايد؛ بل يراهن على تكريس تعاون ثلاثي « جديد »، يندرج ضمن العلاقات شمال-جنوب وجنوب-جنوب، يستفيد منها المغرب دون شك، ويفيد منها أيضًا دول إفريقيا جنوب الصحراء؛ وذلك على شكل نقل للتكنولوجيا أو للخبرات، أو للأنماط الجديدة في تدبير المشاريع وتسيير الموارد اللوجيستية والبشرية.

بامتداد لذلك، وبحكم موقعه الجيوستراتيجي المتميز، فإن المغرب قد راهن -منذ أواسط العقد الأخير- على أن يكون نقطة عبور للاستثمارات الأوروبية والأميركية والخليجية، المتطلعة لتمويل مشاريع استثمارية بإفريقيا جنوب الصحراء، ولعل التعبير الأمثل لذلك هو إنشاؤه لمحطة « الدار البيضاء فاينانس سيتي »؛ التي من مهامها استقطاب الاستثمارات العالمية، وتزويدها بالبنية التحتية وبالمعطيات الإضافية، التي تمكِّنها من تعظيم أرباحها بإفريقيا الشمالية وإفريقيا الغربية وإفريقيا الوسطى.. وغيرها.

ونتيجة لهذا التوجه الجديد (توجه التعاون الثلاثي) استفاد العديد من دول غرب إفريقيا من دعم مالي مهم (متأتٍّ من أوروبا واليابان والولايات المتحدة الأميركية) لإنجاز مشاريع تنموية ذات طبيعة اقتصادية واجتماعية، موجهة بالخصوص إلى قطاعات التربية والتعليم، والصحة والفلاحة والنقل والري العصري، ومد شبكات الماء الصالح للشرب، ومعالجة المياه، والكهرباء القروية والحضرية، وتقوية القدرات الوظيفية والعملياتية.. وغير ذلك.

وقد حصل المغرب على المرتبة الثانية في استقطاب الاستثمارات بإفريقيا بعد جمهورية جنوب إفريقيا، واستطاع بذلك أن يدفع شركات متعددة الجنسيات إلى فتح مكاتب جهوية لها بالمغرب (مايكروسوفت، هاوليت باكارد، آي. بي. إم، سيسكو.. إلخ) وأن يدفع العديد من الشركات إلى نقل جزء من مصانعها إلى المغرب، لتصنيع سلع موجهة لإفريقيا جنوب الصحراء بشكل خاص.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة